في زوايا البيوت القديمة ومجالس النخبة الراقية، لم يكن فنجان القهوة في القاهرة العثمانية مجرد مشروب، بل طقس اجتماعي، ومرآة دقيقة تعكس الفروقات الطبقية، والهوية الثقافية، والبذخ الحضري. ومع مرور الوقت، اكتسبت القهوة رمزية عميقة جعلتها تتجاوز مجرد نكهة إلى أسلوب حياة يُعبّر عن الذوق والمكانة والمجتمع.
القهوة كرمز اجتماعي لا يُستهان به
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، أصبحت القهوة في القاهرة العثمانية أكثر من مشروب يومي؛ تحولت إلى مشهدٍ متكامل من الطقوس، يبدأ من اختيار البن وتخزينه، إلى طريقة التقديم المهيبة، وصولًا إلى لباس مقدّم القهوة وملامح مجلس الضيافة.
فقد ارتبطت القهوة بثقافة الوجاهة، حيث مثّل وجودها في استقبال الضيوف واجبًا لا يُغتفر تركه، لدرجة أن بعض الرحالة وصفوا تقديم الطعام دون القهوة بأنه إهانة صريحة للضيف!
النخبة تصنع الطقس... والقهوة تصنع الفارق
في مجتمع تراتبي تقليدي كالقاهرة العثمانية، لعبت القهوة دورًا محوريًا في إبراز التمايز الاجتماعي. فبينما كان الفقراء يحتسونها على مصاطب البيوت أو في المقاهي العامة، كانت القصور المملوكية تتفنن في تقديمها ضمن طقوس مترفة تشمل البخور، والعنبر، والخدم المدربين خصيصًا لهذه المناسبة.
وكان مشهد "القَهوجي" وهو يقدّم القهوة برفقة خدم يرتدون زيًّا موشحًا بالذهب أو المجوهرات، جزءًا من استعراض الهيبة الاجتماعية والنفوذ، حتى صارت أدوات القهوة نفسها (كالبكرج والفناجين المزينة بالماس) من مؤشرات الثراء.
المقاهي: موطن الطبقة الوسطى ومساحة التعبير الشعبي
لم تكن القهوة حكرًا على النخبة، فقد انتشرت المقاهي في شوارع القاهرة بشكل لافت، حتى بلغ عددها في أواخر القرن الثامن عشر ما يقارب 1200 مقهى. تحولت تلك المقاهي إلى فضاءات للقاءات اليومية، والسمر، والاستماع إلى الحكاواتية، ولعب الدامة والشطرنج، وممارسة ثقافة وقت الفراغ بلمسة شعبية.
حين امتزج الدين بالطعم: القهوة وطرق الصوفية
المثير أن القهوة بدأت طريقها في مصر من زوايا الصوفية، حيث اعتُبرت "شراب أهل الله" لما تمنحه من صفاء وصفنة تساعد على الذكر والمناجاة. هذه الخلفية الدينية منحتها شرعية روحية ساعدت على انتشارها، حتى أصبحت عادة اجتماعية تتسلل من دوائر التصوف إلى مجالس النخبة ومقاهي العوام.
أدوات التميّز المادي... وملامح الوجاهة
كانت النخبة تصرّ على تقديم القهوة بأدق تفاصيل البذخ: فناجين من الخزف الصيني، أغطية مرصعة، أدوات مطلية بالفضة أو الذهب، رائحة العنبر، ومباخر تتصاعد منها روائح العود. بل إن وجود بيت مخصص للقهوة في طابق الاستقبال بالقصور، كان من مظاهر الترف الأساسية.
وفي المقابل، كانت القهوة الشعبية تُشرب في آنية بسيطة، دون روائح أو مظاهر، لكنها بقيت حاضرة رغم كل شيء، لتجمع تحت ظلها الفقير والغني على اختلاف أدواتهم.
الختام: فنجان القهوة... ذاكرة مدينة وهوية مجتمع
القهوة في القاهرة العثمانية لم تكن مشروبًا يمرّ مرور الكرام. كانت هوية يومية، تُرسم عبرها خطوط الطبقة، وتُبنى بها العلاقات، وتُعبّر من خلالها الدولة والمجتمع عن ذائقتها وثقافتها. إنها تاريخ سائل... قُدم في فناجين.
تعليقات
إرسال تعليق