التخطي إلى المحتوى الرئيسي

القهوة في بريطانيا: من مشروبٍ غريب إلى ركنٍ أساسي في الثقافة

 

البدايات المُرّة: مشروبٌ أسود كالحبر!

في مطلع القرن السابع عشر، وصلت إلى أوروبا نفحةٌ شرقيةٌ جديدة، داكنة اللون، مُرّة المذاق، سرعان ما غزت أذواق الأوروبيين وعقولهم. إنها القهوة، ذلك المشروب الذي وصفه الرحالة وليام بيدولف عام 1615 بـ "سائل أسود كالحبر يُشرب ساخنًا"، ليُعبّر عن دهشته من هذا "الإكسير" الغريب القادم من بلاد العثمانيين. فقد كانت القهوة بالنسبة للأوروبيين آنذاك مشهدًا غريبًا، حيث اعتادوا على مشروباتٍ أخرى كالجعّة والنبيذ، فكيف لهم أن يتقبلوا هذا السائل المُرّ الداكن؟ لكن بيدولف لم يكتفِ بوصف مظهر القهوة، بل ذكر أيضًا عادات شربها في المجتمع العثماني، وكيف كانت تُقدم في فناجين صغيرة وتُحتسى ببطء، مما أثار فضول الأوروبيين ودفعهم لاستكشاف هذا العالم الجديد.

من مشروبٍ غريب إلى "دواء": القهوة في عيون الأطباء

ورغم مذاقها المُرّ الذي صدم أذواقًا أوروبية مُعتادة على الجعة والنبيذ، إلا أن القهوة شقت طريقها ببراعة نحو قلوب وعقول الطبقة المثقفة في بريطانيا. فمن خلال تقارير الرحالة والكتب الطبية التي أشادت بفوائدها الصحية، بدأت القهوة تُعرف كـ "دواء للمعدة" و مُحفّزٍ للنشاط الذهني. ففي عام 1657، نشر الطبيب الإنجليزي "كريستوفر ميريت" كتيبًا بعنوان "فوائد القهوة" أشاد فيه بفوائدها الصحية المتعددة، مثل تحسين الهضم، وتقوية الذاكرة، ومعالجة الصداع. كما ساهم الطبيب "دانيال دنكان" في نشر ثقافة القهوة في بريطانيا من خلال كتابه "التاريخ الطبيعي للقهوة والشاي والشوكولاتة" الذي صدر عام 1682، حيث وصف القهوة بأنها "مشروبٌ نبيل يُنشّط الجسم والعقل".

المقاهي: "جامعات بنس واحد" : ملتقى العقول

وفي عام 1650، فُتحت أبواب أول مقهى في بريطانيا بمدينة أكسفورد على يد "جاكوب"، وهو يهودي من أصل لبناني، ليُعلن عن ميلاد فضاءٍ اجتماعي جديد. تبعه افتتاح أول مقهى في لندن عام 1652 على يد "باسكوا روسي" الذي ساهم في نشر ثقافة القهوة في المدينة. ومع مرور الوقت، انتشرت المقاهي كالنار في الهشيم في جميع أنحاء بريطانيا، حتى بلغ عددها أكثر من 3000 مقهى بحلول نهاية القرن السابع عشر. ولم تقتصر شهرة المقاهي على تقديم القهوة فقط، بل أصبحت مراكز جذبٍ للطبقات الاجتماعية المختلفة، حيث كان بإمكان أي شخص، بغض النظر عن طبقته الاجتماعية، الدخول إلى المقهى والاستمتاع بفنجان قهوة والمشاركة في النقاشات مقابل بنس واحد فقط.

بوتقة الأفكار: مهدٌ للثورة الفكرية

لكن هذه المقاهي لم تكن مجرد أماكن لتناول القهوة، بل تحولت إلى مناراتٍ فكرية، حيث احتشد فيها التجار والعلماء والسياسيون، يتبادلون الأفكار والنقاشات في جوٍ من الحرية الفكرية، حتى عُرفت بـ "جامعات بنس واحد" لأن الدخول إليها لم يكن يتطلب سوى بنس واحد ثمن فنجان قهوة. وهكذا، ساهمت المقاهي في خلق "الفضاء العام" الذي تحدث عنه الفيلسوف يورغن هابرماس، حيث تلاشت الفوارق الطبقية، واختلطت الأفكار في بوتقةٍ واحدة. ففي مقاهي لندن، وُلدت أفكارٌ ثورية غيّرت مجرى التاريخ، مثل "جمعية العلوم الملكية" التي تأسست عام 1660، والتي ساهمت في تطوير العلوم في بريطانيا.

رمز الحداثة: مشروب التنوير

أصبحت القهوة رمزًا للحداثة والعقلانية، وبديلاً صحيًا عن المشروبات الكحولية، كما ارتبطت بالانضباط واليقظة، مما جعلها المشروب المُفضّل للتجار والمثقفين. ولعبت دورًا هامًا في تعزيز التجارة العالمية، حيث تحولت إلى سلعةٍ ثمينة تتداولها الإمبراطوريات الأوروبية عبر موانئ مثل المخا في اليمن وجاوة في إندونيسيا. فقد أدركت الإمبراطورية البريطانية أهمية القهوة في تعزيز اقتصادها، فسعت إلى السيطرة على تجارة القهوة في العالم، وذلك من خلال تأسيس شركة الهند الشرقية التي احتكرت تجارة القهوة في القرن الثامن عشر.

رحلة محفوفة بالتحديات: بين الرفض والقبول

لكن رحلة القهوة لم تكن مفروشة بالورود، فقد واجهت انتقاداتٍ لاذعة من بعض رجال الدين الذين اعتبروها "مشروبًا مُسلمًا" يُهدد الأخلاق المسيحية، كما أُثيرت مخاوف اقتصادية من استيرادها كسلعةٍ أجنبية قد تُهدد المنتجات المحلية. إلا أن القهوة استطاعت التغلب على هذه العقبات بفضل دعم النخبة الفكرية والطبية. ففي عام 1675، حاول الملك "تشارلز الثاني" حظر المقاهي في بريطانيا بسبب اعتقاده أنها تُشكل تهديدًا للاستقرار السياسي، إلا أن هذه المحاولة باءت بالفشل بسبب الشعبية الكبيرة التي كانت تحظى بها المقاهي بين جميع الطبقات الاجتماعية.

جزء من الحياة اليومية: فنجان قهوة صباحي

ومع حلول القرن الثامن عشر، أصبحت القهوة جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية في بريطانيا، وظهرت مقاهي متخصصة تناقش فيها مواضيع مُحددة، مثل الأدب في مقهى "ويليس"، والسياسة في "جوناثانز"، والتجارة في "لويدز" الذي أصبح فيما بعد نواة شركة التأمين العالمية الشهيرة "لويدز لندن". فقد أصبحت القهوة مشروبًا أساسيًا في وجبة الإفطار البريطانية، وكان يُقدم في المنازل وفي أماكن العمل، وأصبحت طقوس شرب القهوة جزءًا من التقاليد الاجتماعية في بريطانيا.

إرثٌ ثقافي واجتماعي: أكثر من مجرد مشروب

هكذا، لم تكن القهوة مجرد مشروب، بل كانت محفزًا للتغيير الثقافي والاجتماعي في بريطانيا، أعادت تعريف الفضاءات العامة، وأصبحت رمزًا للابتكار والتقدم. فما بدأ كمشروبٍ غريب في الشرق الأوسط، تحول إلى ركنٍ أساسي في الثقافة البريطانية، تاركًا إرثًا ثريًا يمتد حتى يومنا هذا. فلا يمكن إنكار الدور الذي لعبته القهوة في تشكيل الهوية البريطانية الحديثة، فهي رمزٌ للثقافة والإبداع والانفتاح على العالم.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

تجارة البن اليمني: حين صاغت الحبة السمراء ملامح اليمن الاقتصادي

  مقدمة: البن اليمني... ذهبٌ أسود من نوع آخر على امتداد ثلاثة قرون، لم يكن البن اليمني مجرد سلعة زراعية تُزرع وتُصدّر، بل كان حجر الأساس لاقتصاد ناشئ، وقناة عبور لليمن إلى الأسواق العالمية، ومصدر فخر للهوية المحلية. ومن جبال اليمن خرج اسم "موكا" ليصبح علامة تجارية عالمية للقهوة الفاخرة، مرتكزًا على جودة الحبوب، وثراء التجربة التجارية التي نشأت حولها. بنية التجارة الداخلية: من الأسواق إلى السماسر شكلت التجارة الداخلية للبن اليمني نظامًا اقتصاديًا متماسكًا، تمحور حول الأسواق المحلية، والسماسر، والدلالين. وقد تنوعت الأسواق بين أسبوعية ودائمة، وتمركزت خاصة في مدن الموانئ كمخا والحديدة وعدن. أما "السماسر"، فكانت منشآت متعددة الوظائف: مخازن للبضائع، ونُزل للتجار، ومراكز للجمارك والتحصيل. وكان لكل سمسرة قوانينها وإجراءاتها، مما جعلها مكوّنًا بنيويًا في تنظيم السوق اليمني. السمسرة والدلالة: التاجر في المنتصف اعتمدت تجارة البن على وسطاء عُرفوا بالدلالين، وكانوا يتمتعون بمكانة عالية في المجتمع التجاري، نظير مهاراتهم في الوساطة والتفاوض وفحص البضاعة. وقد لعب "الباني...

فلسفة الحياة في فنجان

في كل صباح، عندما تلتقط يدك حبات البن لتطحنها وتعد قهوتك، تتكرر أمامك طقوس تحمل أكثر من مجرد لذة مشروب. تلك الحبات الداكنة التي تبدو عادية تحمل بين طياتها رمزًا للحياة بأسرها. القهوة ليست مجرد شراب، بل هي مرآة تعكس فلسفة الوجود: من الجذور التي تنمو في أعماق الأرض، إلى التحولات التي تمر بها حتى تصبح تلك القطرات الساحرة. الحبة: البذرة والإمكانات الكامنة كل شيء يبدأ من حبة القهوة، تلك البذرة الصغيرة التي تحمل بداخلها كل احتمالات النكهة والرائحة. مثل الإنسان، تبدأ الحبة من أصل بسيط، لكنها تحمل في جوهرها قدرة هائلة على التحول. كيف تُزرع وأين تُزرع، وكيف تُعتنى بها، يحدد مصيرها تمامًا كما تحدد البيئة التي ننشأ فيها والطريقة التي نُغذى بها شكل حياتنا ومستقبلنا. البذرة التي تنمو في ظروف قاسية قد تنتج قهوة أغنى طعمًا، تمامًا كما يخرج الإنسان أقوى وأعمق تفكيرًا من التجارب الصعبة. هنا، نتعلم أن الجمال ينبثق أحيانًا من المشقة، وأن المعاناة ليست النهاية بل البداية لتحول أكثر عمقًا. التحميص: النار والتجربة عندما تُلقى حبات القهوة الخضراء في النار لتتحمص، يتغير كل شيء. تلك اللحظة الحرجة من التحول هي ...