مقدمة: البن اليمني... ذهبٌ أسود من نوع آخر
على امتداد ثلاثة قرون، لم يكن البن اليمني مجرد سلعة زراعية تُزرع وتُصدّر، بل كان حجر الأساس لاقتصاد ناشئ، وقناة عبور لليمن إلى الأسواق العالمية، ومصدر فخر للهوية المحلية. ومن جبال اليمن خرج اسم "موكا" ليصبح علامة تجارية عالمية للقهوة الفاخرة، مرتكزًا على جودة الحبوب، وثراء التجربة التجارية التي نشأت حولها.
بنية التجارة الداخلية: من الأسواق إلى السماسر
شكلت التجارة الداخلية للبن اليمني نظامًا اقتصاديًا متماسكًا، تمحور حول الأسواق المحلية، والسماسر، والدلالين. وقد تنوعت الأسواق بين أسبوعية ودائمة، وتمركزت خاصة في مدن الموانئ كمخا والحديدة وعدن. أما "السماسر"، فكانت منشآت متعددة الوظائف: مخازن للبضائع، ونُزل للتجار، ومراكز للجمارك والتحصيل. وكان لكل سمسرة قوانينها وإجراءاتها، مما جعلها مكوّنًا بنيويًا في تنظيم السوق اليمني.
السمسرة والدلالة: التاجر في المنتصف
اعتمدت تجارة البن على وسطاء عُرفوا بالدلالين، وكانوا يتمتعون بمكانة عالية في المجتمع التجاري، نظير مهاراتهم في الوساطة والتفاوض وفحص البضاعة. وقد لعب "البانيان" — وهم تجار هنود — دورًا بارزًا في هذا المجال، نتيجة معرفتهم العميقة بتقلبات السوق وإتقانهم للغات متعددة، ما جعلهم حلقة وصل مثالية بين اليمنيين والتجار الأجانب.
من اليمن إلى العالم: كيف غيّر البن موازين التجارة
من خلال ميناء المخا، تدفقت شحنات البن إلى أنحاء العالم الإسلامي، ثم إلى أوروبا، حيث لاقت القهوة إقبالًا متزايدًا منذ القرن السابع عشر. وقد سعت السلطات اليمنية حينها إلى حماية هذا المصدر الحيوي، ففرضت عقوبات مشددة على من يحاول تهريب شتلات البن إلى الخارج، خشية كسر الاحتكار اليمني. غير أن هذه المحاولات لم تمنع الهولنديين من نقل الشجرة إلى جاوه، لتبدأ بذلك مرحلة أفول الدور اليمني.
القات... نبتة حلّت محل التاريخ
مع نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الاهتمام بزراعة البن يتراجع تدريجيًا، لصالح نبتة القات. وبدل أن تحافظ الدولة والمزارعون على الإرث البنّي، سمحوا للقات أن يتمدد على حساب الحقول التاريخية. وهكذا تراجعت مكانة اليمن في خارطة تجارة البن، وخسرت البلاد مصدر دخل استراتيجي كان بإمكانه أن يوازي القمح أو القطن في أهميته.
خلاصة: البن اليمني... تراث قابل للاستعادة
قصة البن اليمني ليست حكاية ماضٍ فحسب، بل هي فرصة مستقبلية. إن إعادة الاعتبار لهذه الحبة السمراء تعني استعادة مجد اقتصادي، وتعزيز هوية ثقافية تمتد جذورها من الأسواق الداخلية إلى الموانئ الكبرى، ومن السماسر المحلية إلى المقاهي الأوروبية.
📚 المصدر:
أروى الخطابي، تجارة البن اليمني، دراسة تاريخية (القرن 17–19م)
تعليقات
إرسال تعليق